ثانيا: على مستوى الشرق الأوسط
رغم مركزية الشرق الأوسط في إستراتيجية الدفاع الصاروخي فإن النقاش والجدل الذي يدور حولها لا يعطي هذا البعد حجما موازيا لأهميته, خاصة من ناحية آثاره السلبية على المنطقة. وليس هناك احتساب لرأي حكومات المنطقة وشعوبها ولا اهتمام بمصالحها, خاصة وأن صمت الدول العربية حول الموضوع وعدم اعتراضها بجدية مسموعة عليه لا يدفع الولايات المتحدة حتى للاضطرار لشرح وتبرير برنامجها هذا لدول المنطقة والرأي العام فيها.
يتمثل البعد الشرق أوسطي لنظام الدفاع الصاروخي الأميركي في ثلاثة أبعاد:
جدية الادعاء بوجود خطر على أمن الولايات والمدن الأميركية من قبل صواريخ إيرانية أو عراقية.
دور إسرائيل وموقعها في هذا النظام.
تسويق أنظمة دفاع صاروخي في منطقة الخليج وتنشيط المبيعات الأميركية.
أولا: جدية المخاطر
فلنفرض جدلا أن كلا من العراق وإيران يملكان, أو سيملكان, صواريخ تستطيع أن تصل إلى المدن الأميركية, بعكس تقديرات لجان نزع السلاح الأممية على الأقل فيما يتعلق بجانب العراق. ومع هذه الفرضية وللكشف عن مدى جدية الادعاء بالخطر الإيراني أو العراقي ينبغي توجيه السؤال التالي والتأمل فيه: هل من الممكن أن تقدم بغداد أو طهران على عملية انتحار طوعي وإطلاق ولو صاروخا واحدا على أي مدينة أميركية, في ضوء تقدير الأرباح والخسائر جراء مثل هذه الخطوة؟ هل من الممكن أن تقدم بغداد على ذلك في ضوء ما حل وما يزال يحل بالعراق من دمار وحصار على يد واشنطن وتحكمها بالملف العراقي في مجلس الأمن منذ عشر سنوات رغم أنه لم يطلق ولا حتى طلقة واحدة على أي مدينة أميركية, فضلا عن أن تطلق صاروخا؟ وهل من الممكن أن تقدم طهران على ذلك في ضوء ما حل وما يزال يحل بإيران نتيجة الحصار والتضييق الأميركي-الغربي عليها ودون أن تطلق ولو طلقة واحدة باتجاه الأراضي الأميركية, فضلا عن أن تطلق صاروخا؟ هل يمكن أن يستوي أي تحليل إستراتيجي موضوعي وعقلاني يقول إن هذين البلدين لا ينظران إلى مقدار الرد الانتقامي والثأري المتوقع حال الإقدام على خطوة إطلاق صواريخ ضد مدن أميركية؟ ألن يسأل صناع القرار في أي من العاصمتين ما الحصيلة العسكرية والسياسية والدبلوماسية التي من الممكن إنجازها مقابل مثل هذه المغامرة الانتحارية؟ وأليس من المنطقي أكثر أن يفكر أعداء أميركا في الشرق الأوسط, سواء أكانوا دولا أم منظمات ممن يملكون, افتراضا, صواريخ عابرة للقارات كما تتخوف واشنطن, بأنه من الأفضل لهم ألف مرة, إن أرادوا خوض حرب كسر عظم مع الولايات المتحدة, أن يضربوا مصالحها في المنطقة بدل أن يخوضوا حربا خاسرة عبر الصواريخ ضد مدنها وأراضيها؟
ربما يقال هنا إن هذه الحسابات تجرى في داخل "السياسة العقلانية والرشيدة" التي لا تنطبق على تسيس أي من البلدين, لكن الواقع ينفي هذه المقولة من خلال ما تقدمه سياسة البلدين نفسها في السنوات الأخيرة وهي سياسة محكومة بحسابات الربح والخسارة خاصة في التعامل مع الدول الكبرى والولايات المتحدة على وجه الخصوص. بل بالإمكان القول إنه حتى خطوة غزو الكويت, ورغم طيشها البالغ, فقد خضع قرار اتخاذها عند الطرف العراقي لمنطق حسابات الربح والخسارة, وبعد أن فهم تلميحات أميركية, خطأ أم صوابا, أن واشنطن لن تبالي حال أقدم العراق على خطوة غزو الكويت. كما أن العراق نفسه وخضوعا لحسابات الربح والخسارة العقلانية وفي ذروة هزيمته العسكرية أثناء الحرب لم يلجأ لاستخدام أسلحة نووية أو كيماوية ضد جيوش التحالف تطبيقا لمنطق تقدير الرد المتوقع من قبل الخصم. وينطبق الأمر على إيران التي امتنعت عن الانخراط في تلك الحرب تبعا لحسابات ربح وخسارة سياسية دقيقة يحكمها منطق واقعي وبراغماتي. وهي أيضا تخلت عن فكرة "تصدير الثورة" انصياعا لمنطق الواقعية السياسية. وهي منذ سنوات تنهج نهجا معتدلا في السياسة الخارجية هدفه تغيير صورة إيران في الغرب والعالم من دولة "إرهابية ومتعصبة" إلى دولة حديثة وعقلانية. لذلك فإن احتمالا ولو بنسبة 1% يقول إن صاروخا عراقيا أو إيرانيا سوف يوجه إلى أراض أميركية في السنوات القادمة هو غير وارد ولا يستحق أن تقام من أجله إستراتيجية دفاع صاروخي تبحث عن عدو في أصقاع الأرض. وهذا الاحتمال غير الوارد يفترض أيضا أن سياسة الولايات المتحدة تجاه هذين البلدين لم تتغير وظلت متعنتة وليست انفتاحية. وبالتأكيد فإن انعدام الاحتمال بانطلاق صاروخ عراقي أو إيراني تجاه الولايات المتحدة سوف يترسخ في ما لو قررت واشنطن تبني سياسة أقل عدائية تجاه البلدين متجهة نحو التعاون وليس دق طبول الحرب. وإذا لاحظنا أن نظام العقوبات والحصار على العراق آيل إلى التفكك في نهاية المطاف, وأن سياسة الاعتدال الإيراني في السياسة الخارجية آخذة بالترسخ حتى في أوساط المتشددين (خاصة في دوائر صنع القرار العسكري والإستراتيجي) فيجوز لنا توقع أن تتجه العلاقات الأميركية- العراقية والأميركية-الإيرانية باتجاه أقل تصعيدا وعدائية في السنوات العشر القادمة, برغم ما يبدو الآن من توتر مفاجئ جذره استعراضي من قبل الإدارة الأميركية الجمهورية لإثبات الذات ورسم مسار مختلف بهدف الاختلاف أكثر منه لأي هدف واضح آخر, بما يعني أنه مسار لن يطول كثيرا وسوف يرتد إلى واقع يقول إن الحصار على العراق يسير في منحنى هابط. ومن أجل كل هذا فإن وضع البلدين, العراق وإيران, على رأس قائمة المخاطر الوهمية التي تهدد الأمن القومي الأميركي مباشرة يصبح مبالغة لا معنى لها إلا إذا كان له أهداف أخرى غير المعلنة.
ثانيا: موقع إسرائيل في النظام الدفاعي
هنا ثمة تقاطعات بين إستراتيجية الدفاع الصاروخي الإسرائيلية ونظيرتها الأميركية تحدث للمرة الأولى وتبرر من ناحية وضع العراق وإيران في موقع تهديدي متقدم للأمن القومي الأميركي, وتشير من ناحية إلى مستقبل العلاقة الإستراتيجية بين الطرفين والمتجه نحو آفاق جديدة غير مسبوقة.
والأمر الأولي الذي أسس لتوافق الإستراتيجيتين هو التغير الذي طرأ على جدول أولويات الإستراتيجية الإسرائيلية بعد حرب الخليج ووصول الصورايخ العراقية إلى تل أبيب. فبعيد الحرب, وإثر فشل نظام باتريوت الأميركي في إسقاط الصورايخ العراقية, اشتغلت إسرائيل ببرنامج هائل لتطوير أنظمة صواريخ أرو التي تهدف إلى إقامة شبكة دفاع صاروخي لا يتم اختراقها من أي صاروخ عراقي, أو إيراني, أو سوري, أو مصري. وقد انخرطت الولايات المتحدة في ذلك البرنامج بقوة منذ البداية دعما وتنسيقا, إذ قدمت له ما يزيد عن 1.1 بليون دولار, فضلا عن المشاركة الفنية والبرامج الثنائية. وقد نجحت إسرائيل في تطوير شبكة دفاع صاروخي متطورة وأنظمة مرافقة تفوقت بها على التكنولوجيا الأميركية نفسها. وأعلنت إسرائيل في الربع الأخير من العام الماضي أنها نشرت أنظمة صوايخ أرو الدفاعية وباتت محمية من الصواريخ الهجومية القادمة من الخارج. وفي المنظور الإسرائيلي فإن مصادر التهديد الأولى التي شيد ضدها نظام أرو الدفاعي تأتي من العراق وإيران. أي أن الإستراتيجية الإسرائيلية تتماشى هنا مع نظيرتها الأميركية في إدراك أن مخاطر التهديد لأراضي البلدين تأتي من العراق وإيران.
والشيء الجديد هنا هو أن هذا التوافق يحصل لأول مرة بمثل هذا العمق, خاصة من جانب الولايات المتحدة. ففي السابق كانت تتطابق النظرتان الأميركية والإسرائيلية تجاه مصادر الخطر في الشرق الأوسط ضد "مصالح البلدين" وليس ضد "أراضي البلدين". فالخطر الذي كان يهدد "أراضي إسرائيل" لم يكن يعتبر من قبل الأميركان تهديدا لأراضيهم (سوريا, ومصر, والعراق, ومنظمة التحرير, والنفوذ السوفياتي, والدول والمنظمات الثورية في المنطقة...). أما الآن وبسبب نزق السياسة الأميركية المتصاعد فإن ذلك التوافق نشأ وتطور بوضوح جالبا معه بالتأكيد أنماطا جديدة من التوتر "الصاروخي" سوف تعصف بالمنطقة في المرحلة المقبلة. إذ إن اختلال التوازن الصاروخي والأنظمة الدفاعية المرتبطة به لصالح إسرائيل بشكل صارخ لن يستقبل استقبالا حميميا من قبل العواصم العربية في المشرق. وسيزيد من وتائر التسلح وإحداث مزيد من استنزاف موارد المنطقة ويفتح فصلا جديدا من فصول ازدواجية السياسة الأميركية في المنطقة, التي تزعم أنها تريد دعم التنمية والاستقرار في المنطقة ونزع فتائل الحروب والتوتر.
ثالثا: تسويق أنظمة الدفاع الأميركية في الخليج
أما المسألة الثالثة فهي مرتبطة بالفكرة الأخيرة أعلاه وهي أثر نظام الدفاع الصاروخي على المحاولات الأميركية لتسويق أنظمة دفاع جوي لدول الخليج. إذ إنه من المؤكد أن خلق أجواء "توتر صاروخي" في المنطقة مصحوبة بتطورات عدة مثل تسخين النظرة العدائية للعراق وإيران من هذه الزاوية, وتفوق إسرائيل في أنظمة الدفاع الصاروخي, وانكشاف الدول العربية, ومواصلة إشعار دول الخليج بالخطر المحتمل من إيران والعراق, ومعارضة قيام أي نظام أمن خليجي جماعي لا يعتمد على الخارج, كل ذلك سوف يوسع من سوق مبيعات أنظمة الدفاع الصاروخية الأميركية وينشطها. ولم تترك الولايات المتحدة هذا الأمر في دائرة التخمين والتحليل فقد قام ويليام كوهين, وزير الدفاع الأميركي السابق, في نوفمبر/ تشرين الثاني 2000 بزيارة تسويق موسعة لدول الخليج عارضا عليها الانخراط في مشروع "مبادرة التعاون الدفاعي", تقوم على نشر أنظمة بطاريات باتريوت في المنطقة لاعتراض أي صواريخ هجومية (قادمة ضمنا وافتراضا من العراق أو إيران). والغريب في الموضوع أن هذه الأنظمة المراد تسويقها على دول الخليج هي الأنظمة التي لفظتها إسرائيل بسبب عدم فعاليتها التي اختبرت في حرب الخليج, والتي استبدلت إسرائيل أنظمة صواريخ الأرو بها.
ـــــــــــــــ
* زميل زائر بقسم الدراسات الشرق أوسطية والإسلامية في جامعة كامبردج.
رغم مركزية الشرق الأوسط في إستراتيجية الدفاع الصاروخي فإن النقاش والجدل الذي يدور حولها لا يعطي هذا البعد حجما موازيا لأهميته, خاصة من ناحية آثاره السلبية على المنطقة. وليس هناك احتساب لرأي حكومات المنطقة وشعوبها ولا اهتمام بمصالحها, خاصة وأن صمت الدول العربية حول الموضوع وعدم اعتراضها بجدية مسموعة عليه لا يدفع الولايات المتحدة حتى للاضطرار لشرح وتبرير برنامجها هذا لدول المنطقة والرأي العام فيها.
يتمثل البعد الشرق أوسطي لنظام الدفاع الصاروخي الأميركي في ثلاثة أبعاد:
جدية الادعاء بوجود خطر على أمن الولايات والمدن الأميركية من قبل صواريخ إيرانية أو عراقية.
دور إسرائيل وموقعها في هذا النظام.
تسويق أنظمة دفاع صاروخي في منطقة الخليج وتنشيط المبيعات الأميركية.
أولا: جدية المخاطر
فلنفرض جدلا أن كلا من العراق وإيران يملكان, أو سيملكان, صواريخ تستطيع أن تصل إلى المدن الأميركية, بعكس تقديرات لجان نزع السلاح الأممية على الأقل فيما يتعلق بجانب العراق. ومع هذه الفرضية وللكشف عن مدى جدية الادعاء بالخطر الإيراني أو العراقي ينبغي توجيه السؤال التالي والتأمل فيه: هل من الممكن أن تقدم بغداد أو طهران على عملية انتحار طوعي وإطلاق ولو صاروخا واحدا على أي مدينة أميركية, في ضوء تقدير الأرباح والخسائر جراء مثل هذه الخطوة؟ هل من الممكن أن تقدم بغداد على ذلك في ضوء ما حل وما يزال يحل بالعراق من دمار وحصار على يد واشنطن وتحكمها بالملف العراقي في مجلس الأمن منذ عشر سنوات رغم أنه لم يطلق ولا حتى طلقة واحدة على أي مدينة أميركية, فضلا عن أن تطلق صاروخا؟ وهل من الممكن أن تقدم طهران على ذلك في ضوء ما حل وما يزال يحل بإيران نتيجة الحصار والتضييق الأميركي-الغربي عليها ودون أن تطلق ولو طلقة واحدة باتجاه الأراضي الأميركية, فضلا عن أن تطلق صاروخا؟ هل يمكن أن يستوي أي تحليل إستراتيجي موضوعي وعقلاني يقول إن هذين البلدين لا ينظران إلى مقدار الرد الانتقامي والثأري المتوقع حال الإقدام على خطوة إطلاق صواريخ ضد مدن أميركية؟ ألن يسأل صناع القرار في أي من العاصمتين ما الحصيلة العسكرية والسياسية والدبلوماسية التي من الممكن إنجازها مقابل مثل هذه المغامرة الانتحارية؟ وأليس من المنطقي أكثر أن يفكر أعداء أميركا في الشرق الأوسط, سواء أكانوا دولا أم منظمات ممن يملكون, افتراضا, صواريخ عابرة للقارات كما تتخوف واشنطن, بأنه من الأفضل لهم ألف مرة, إن أرادوا خوض حرب كسر عظم مع الولايات المتحدة, أن يضربوا مصالحها في المنطقة بدل أن يخوضوا حربا خاسرة عبر الصواريخ ضد مدنها وأراضيها؟
ربما يقال هنا إن هذه الحسابات تجرى في داخل "السياسة العقلانية والرشيدة" التي لا تنطبق على تسيس أي من البلدين, لكن الواقع ينفي هذه المقولة من خلال ما تقدمه سياسة البلدين نفسها في السنوات الأخيرة وهي سياسة محكومة بحسابات الربح والخسارة خاصة في التعامل مع الدول الكبرى والولايات المتحدة على وجه الخصوص. بل بالإمكان القول إنه حتى خطوة غزو الكويت, ورغم طيشها البالغ, فقد خضع قرار اتخاذها عند الطرف العراقي لمنطق حسابات الربح والخسارة, وبعد أن فهم تلميحات أميركية, خطأ أم صوابا, أن واشنطن لن تبالي حال أقدم العراق على خطوة غزو الكويت. كما أن العراق نفسه وخضوعا لحسابات الربح والخسارة العقلانية وفي ذروة هزيمته العسكرية أثناء الحرب لم يلجأ لاستخدام أسلحة نووية أو كيماوية ضد جيوش التحالف تطبيقا لمنطق تقدير الرد المتوقع من قبل الخصم. وينطبق الأمر على إيران التي امتنعت عن الانخراط في تلك الحرب تبعا لحسابات ربح وخسارة سياسية دقيقة يحكمها منطق واقعي وبراغماتي. وهي أيضا تخلت عن فكرة "تصدير الثورة" انصياعا لمنطق الواقعية السياسية. وهي منذ سنوات تنهج نهجا معتدلا في السياسة الخارجية هدفه تغيير صورة إيران في الغرب والعالم من دولة "إرهابية ومتعصبة" إلى دولة حديثة وعقلانية. لذلك فإن احتمالا ولو بنسبة 1% يقول إن صاروخا عراقيا أو إيرانيا سوف يوجه إلى أراض أميركية في السنوات القادمة هو غير وارد ولا يستحق أن تقام من أجله إستراتيجية دفاع صاروخي تبحث عن عدو في أصقاع الأرض. وهذا الاحتمال غير الوارد يفترض أيضا أن سياسة الولايات المتحدة تجاه هذين البلدين لم تتغير وظلت متعنتة وليست انفتاحية. وبالتأكيد فإن انعدام الاحتمال بانطلاق صاروخ عراقي أو إيراني تجاه الولايات المتحدة سوف يترسخ في ما لو قررت واشنطن تبني سياسة أقل عدائية تجاه البلدين متجهة نحو التعاون وليس دق طبول الحرب. وإذا لاحظنا أن نظام العقوبات والحصار على العراق آيل إلى التفكك في نهاية المطاف, وأن سياسة الاعتدال الإيراني في السياسة الخارجية آخذة بالترسخ حتى في أوساط المتشددين (خاصة في دوائر صنع القرار العسكري والإستراتيجي) فيجوز لنا توقع أن تتجه العلاقات الأميركية- العراقية والأميركية-الإيرانية باتجاه أقل تصعيدا وعدائية في السنوات العشر القادمة, برغم ما يبدو الآن من توتر مفاجئ جذره استعراضي من قبل الإدارة الأميركية الجمهورية لإثبات الذات ورسم مسار مختلف بهدف الاختلاف أكثر منه لأي هدف واضح آخر, بما يعني أنه مسار لن يطول كثيرا وسوف يرتد إلى واقع يقول إن الحصار على العراق يسير في منحنى هابط. ومن أجل كل هذا فإن وضع البلدين, العراق وإيران, على رأس قائمة المخاطر الوهمية التي تهدد الأمن القومي الأميركي مباشرة يصبح مبالغة لا معنى لها إلا إذا كان له أهداف أخرى غير المعلنة.
ثانيا: موقع إسرائيل في النظام الدفاعي
هنا ثمة تقاطعات بين إستراتيجية الدفاع الصاروخي الإسرائيلية ونظيرتها الأميركية تحدث للمرة الأولى وتبرر من ناحية وضع العراق وإيران في موقع تهديدي متقدم للأمن القومي الأميركي, وتشير من ناحية إلى مستقبل العلاقة الإستراتيجية بين الطرفين والمتجه نحو آفاق جديدة غير مسبوقة.
والأمر الأولي الذي أسس لتوافق الإستراتيجيتين هو التغير الذي طرأ على جدول أولويات الإستراتيجية الإسرائيلية بعد حرب الخليج ووصول الصورايخ العراقية إلى تل أبيب. فبعيد الحرب, وإثر فشل نظام باتريوت الأميركي في إسقاط الصورايخ العراقية, اشتغلت إسرائيل ببرنامج هائل لتطوير أنظمة صواريخ أرو التي تهدف إلى إقامة شبكة دفاع صاروخي لا يتم اختراقها من أي صاروخ عراقي, أو إيراني, أو سوري, أو مصري. وقد انخرطت الولايات المتحدة في ذلك البرنامج بقوة منذ البداية دعما وتنسيقا, إذ قدمت له ما يزيد عن 1.1 بليون دولار, فضلا عن المشاركة الفنية والبرامج الثنائية. وقد نجحت إسرائيل في تطوير شبكة دفاع صاروخي متطورة وأنظمة مرافقة تفوقت بها على التكنولوجيا الأميركية نفسها. وأعلنت إسرائيل في الربع الأخير من العام الماضي أنها نشرت أنظمة صوايخ أرو الدفاعية وباتت محمية من الصواريخ الهجومية القادمة من الخارج. وفي المنظور الإسرائيلي فإن مصادر التهديد الأولى التي شيد ضدها نظام أرو الدفاعي تأتي من العراق وإيران. أي أن الإستراتيجية الإسرائيلية تتماشى هنا مع نظيرتها الأميركية في إدراك أن مخاطر التهديد لأراضي البلدين تأتي من العراق وإيران.
والشيء الجديد هنا هو أن هذا التوافق يحصل لأول مرة بمثل هذا العمق, خاصة من جانب الولايات المتحدة. ففي السابق كانت تتطابق النظرتان الأميركية والإسرائيلية تجاه مصادر الخطر في الشرق الأوسط ضد "مصالح البلدين" وليس ضد "أراضي البلدين". فالخطر الذي كان يهدد "أراضي إسرائيل" لم يكن يعتبر من قبل الأميركان تهديدا لأراضيهم (سوريا, ومصر, والعراق, ومنظمة التحرير, والنفوذ السوفياتي, والدول والمنظمات الثورية في المنطقة...). أما الآن وبسبب نزق السياسة الأميركية المتصاعد فإن ذلك التوافق نشأ وتطور بوضوح جالبا معه بالتأكيد أنماطا جديدة من التوتر "الصاروخي" سوف تعصف بالمنطقة في المرحلة المقبلة. إذ إن اختلال التوازن الصاروخي والأنظمة الدفاعية المرتبطة به لصالح إسرائيل بشكل صارخ لن يستقبل استقبالا حميميا من قبل العواصم العربية في المشرق. وسيزيد من وتائر التسلح وإحداث مزيد من استنزاف موارد المنطقة ويفتح فصلا جديدا من فصول ازدواجية السياسة الأميركية في المنطقة, التي تزعم أنها تريد دعم التنمية والاستقرار في المنطقة ونزع فتائل الحروب والتوتر.
ثالثا: تسويق أنظمة الدفاع الأميركية في الخليج
أما المسألة الثالثة فهي مرتبطة بالفكرة الأخيرة أعلاه وهي أثر نظام الدفاع الصاروخي على المحاولات الأميركية لتسويق أنظمة دفاع جوي لدول الخليج. إذ إنه من المؤكد أن خلق أجواء "توتر صاروخي" في المنطقة مصحوبة بتطورات عدة مثل تسخين النظرة العدائية للعراق وإيران من هذه الزاوية, وتفوق إسرائيل في أنظمة الدفاع الصاروخي, وانكشاف الدول العربية, ومواصلة إشعار دول الخليج بالخطر المحتمل من إيران والعراق, ومعارضة قيام أي نظام أمن خليجي جماعي لا يعتمد على الخارج, كل ذلك سوف يوسع من سوق مبيعات أنظمة الدفاع الصاروخية الأميركية وينشطها. ولم تترك الولايات المتحدة هذا الأمر في دائرة التخمين والتحليل فقد قام ويليام كوهين, وزير الدفاع الأميركي السابق, في نوفمبر/ تشرين الثاني 2000 بزيارة تسويق موسعة لدول الخليج عارضا عليها الانخراط في مشروع "مبادرة التعاون الدفاعي", تقوم على نشر أنظمة بطاريات باتريوت في المنطقة لاعتراض أي صواريخ هجومية (قادمة ضمنا وافتراضا من العراق أو إيران). والغريب في الموضوع أن هذه الأنظمة المراد تسويقها على دول الخليج هي الأنظمة التي لفظتها إسرائيل بسبب عدم فعاليتها التي اختبرت في حرب الخليج, والتي استبدلت إسرائيل أنظمة صواريخ الأرو بها.
ـــــــــــــــ
* زميل زائر بقسم الدراسات الشرق أوسطية والإسلامية في جامعة كامبردج.